accessibility

كلمة الامين العام في عيد الام

مؤاب - في رِحابِ شهرِ آذارَ، يسطعُ نجمانِ في سماءِ المجدِ، أحدُهما يُضيءُ بنورِ البطولةِ، والآخرُ يَتَلألأُ بعاطفةٍ لا تُضاهيها عاطفةٌ. فَفي الحادي والعشرينَ من هذا الشهرِ، يَزهُو الأردنيونَ بذكرى معركةِ الكرامةِ الخالدةِ، التي سَطَّر فيها الجيشُ العربيُّ الأردنيُّ أروعَ ملاحمِ الصمودِ والتضحيةِ، وكتبَ بدمائِه سِفرًا خالدًا في صفحاتِ العزَّةِ. وفي اليومِ ذاتهِ، يَحتفي العالمُ بأسمى القيمِ الإنسانيَّةِ، بيومِ الأمِّ، تِلكَ التي تُنبتُ الرجالَ، وتُخرِجُ الأبطالَ، فتكونُ هي الجَذرَ الممتدَّ في تُربةِ الوطنِ، وهي الرُّوحُ التي تَهَبُ للحياةِ معناها الأسمى.

إنَّها مُصادفةٌ فريدةٌ أنْ يَجتمعَ في يومٍ واحدٍ رَمزَانِ مُتكاملانِ: الأمُّ التي تُعطي بلا حُدودٍ، والجنديُّ الذي يَفدي الوطنَ بروحهِ. فكِلاهما مَعينٌ لا يَنضبُ من العطاءِ، وكِلاهما يَبني الأوطانَ، أحدُهما بقلبِه وحنانِه، والآخرُ بسلاحِه وإقدامِه.

ففي صباحِ الحادي والعشرينَ من آذارَ عامَ ١٩٦٨، كانتِ الأرضُ الأردنيَّةُ على مَوعدٍ مع مَلحمةٍ بطوليَّةٍ، عندما تَصَدَّى أبطالُ الجيشِ العربيِّ الأردنيِّ لمحاولةِ الاجتياحِ الصُّهيونيِّ في غورِ الكرامةِ. لم يَكنِ الصراعُ مُجردَ معركةٍ عسكريَّةٍ، بل كانَ اختبارًا حقيقيًّا لإرادةٍ لا تُكسَرُ، وعزيمةٍ لا تَهتزُّ، وكِبرياءِ لا يَلينُ.

وقفَ الجنديُّ الأردنيُّ حينها كالسيفِ المسلولِ، يُقارِعُ العدوَّ بأسلحةِ العزيمةِ والإيمانِ، يَقِفُ على ثرى الأردنِ الطَّهورِ شامخًا كجِبالِ البَلقاءِ، كثَباتِ البتراءِ التي تَحدَّتِ الزَّمانَ والظروفَ، صامدًا كشيحِ الباديةِ، راسخًا لا تُزعزِعُه الرِّياحُ، مُستلهمًا مَجدَ أجدادِهِ وفُرسانِ الأُمَّةِ الذينَ خَطُّوا تاريخَهم بمِدادِ الدَّمِ الطَّاهِرِ. وما أروعَ أن يكونَ النَّصرُ حَليفَ مَن يَملكُ الشَّجاعةَ والحقَّ، حيثُ ارتفَعَتْ رايةُ الأردنِّ عاليَةً، تَحكي للأجيالِ قِصَّةَ صُمودٍ لن يَطويَها النِّسيانُ، ولن يَمحُوَها غُبارُ الأيَّامِ.

وكما احْتَضَنَتِ الأرضُ الأردنيَّةُ أبناءَها الشُّهداءَ، فإنَّ الأمَّ، تِلكَ الرُّوحَ النَّقيَّةَ، تَحتضنُ أبناءَها منذُ لَحظةِ الولادةِ وحتَّى آخرِ رَمقٍ. إنَّها التي تَسهَرُ والكلُّ نِيامٌ، تُروي الظَّمأَ، وتُبَلْسِمُ الجِراحَ، وتَزرَعُ في قُلوبِ الأبناءِ بُذورَ الأخلاقِ والكرامةِ.

إذا كانتْ معركةُ الكرامةِ دَرسًا في الشَّجاعةِ والإيثارِ، فإنَّ الأمَّ هي المَدرسةُ الأولى التي يَتَخرَّجُ منها الأبطالُ. هي مَن تُهَدْهِدُ أحلامَهم في مَهدِ الطُّفولةِ، وتَغرِسُ في أرواحِهم بُذورَ الوَلاءِ والفِداءِ، حتَّى إذا اشْتدَّ عودُهم، صاروا فُرسانًا مِيامينَ، يَذودونَ عن حِمى الوطنِ بكلِّ ما أُوتوا من قوَّةٍ. هُنَّ أوَّلُ مَن زَرَعَ في قُلوبِ أبنائِهِنَّ حُبَّ الوطنِ والإقدامَ في ساحاتِ الوَغى، وكلماتُهُنَّ هي الشَّرارةُ الأولى التي أَلْهَبَتْ مَشاعِرَ الجُندِ، وجَعَلَتْهُم لا يَتَراجَعونَ عن أداءِ واجِبِهم المُقدَّسِ.

ما بينَ معركةِ الكرامةِ ويومِ الأمِّ خيطٌ واحدٌ من التَّضحيةِ، فكما أنَّ الجُنديَّ يَذودُ عن الوطنِ بروحهِ، فإنَّ الأمَّ تُعلِّمُه منذُ نُعومةِ أظفارِهِ أنَّ حُبَّ الوطنِ ليسَ شِعارًا، بل فِعلًا يُمارَسُ في كُلِّ حينٍ. هي التي تَغرِسُ في قلبِهِ الإيمانَ بأنَّ الأرضَ كالعِرضِ، وأنَّه لا كرامةَ لأُمَّةٍ تَنسى شُهداءَها.

تحيَّةَ إجلالٍ وإكبارٍ لِمَن سَكَبَتِ الدّموعَ دَمًا وهي تُوَدِّعُ فِلذَةَ كَبِدِها، لكنَّها أَخْفَتْ حُزنَها خَلفَ جَبِينٍ شامِخٍ كالجَبَلِ، فَلَكِ المَجدُ كُلُّ المَجدِ.

تحيَّةً لِكُلِّ أمٍّ أَنجَبَتْ أبطالًا عاهَدوا اللهَ والوَطنَ أن يَصونوهُ، ويَرفعوا رايتَهُ خَفَّاقةً في كُلِّ مِيدانٍ، يا مَن غَرَسْتِ في أبنائِكِ أنَّ الوطنَ فوقَ كُلِّ شَيءٍ، فَلَكِ الحُبُّ كُلُّ الحُبِّ.

وتحيَّةَ وَلاءٍ وانتماءٍ إلى القِيادةِ الهاشميَّةِ الحَكيمةِ، إلى جَلالةِ المَلِكِ عبدِاللهِ الثَّاني ابنِ الحُسينِ، سليلِ الدَّوحةِ النَّبويَّةِ، وحامي الحِمى، ورَمزِ الحِكمةِ في زَمنِ التَّحدِّياتِ. بورِكَتْ سَواعِدُكَ التي تَبني، وعَزيمَتُكَ التي لا تَلينُ، ورايَتُكَ التي تَظَلُّ خَفَّاقةً في سَماءِ المَجدِ والعِزَّةِ.

خِتامًا، سلامٌ عليكِ يا أُردنُّ، سلامٌ على أرضِكِ الطَّاهِرةِ وسَمائِكِ العَريقةِ، وسلامٌ على كُلِّ أمٍّ أُردنيَّةٍ عظيمةٍ أَسْكَنَتْ في قَلبِها حُبَّ الوطنِ وغَرَسَتْهُ في أبنائِها. وسلامٌ على كُلِّ جُنديٍّ يُرابِطُ على ثَراكِ، يَحرُسُ مَجدَكِ، ويَفتَدي عِزَّتكِ. فَبِكُمْ جميعًا تَبقى الكرامةُ عُنوانًا لا يُمحى، ويَبقى الوطنُ حِصنًا مَنيعًا لا يُكسَرُ.

للمزيد اضغط الرابط

كيف تقيم محتوى الصفحة؟